آداب الإقامة في المدينة
إن من وفقه الله
لسكنى هذه المدينة المباركة الطيبة عليه أن يستشعر أنه ظفر بنعمة عظيمة ومنّة
جسيمة فيشكر الله على هذه النعمة ويحمده على هذا الفضل والإحسان وعليه أن يستشعر أن
كثيرين من سكان المعمورة يشتد شوقهم إلى أن يظفروا بالوصول إلى مكة والمدينة
والبقاء فيهما ولو فترة يسيرة، وفيهم من يجمع النقود القليلة بعضها إلى بعض سنوات
طويلة لتتحقق له هذه الأمنية وإنّ لسكنى هذه المدينة آدابا منها :
·
أن
يكون المسلم في هذه المدينة المباركة قدوة حسنة في الخير لأنه يقيم في بلد شع منه
النور وانطلق منه الهداة المصلحون إلى أنحاء المعمورة فيجد من يفد إلى هذه المدينة
في ساكنيها القدوة الحسنة والاتصاف بالصفات الكريمة والأخلاق العظيمة فيعود إلى
بلده متأثرا مستفيدا لما شاهده من الخير والمحافظة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى
الله عليه وسلم، وكما أن الوافد إلى هذه المدينة يستفيد خيرا وصلاحا بمشاهدة
القدوة الحسنة في هذا البلد المبارك فإن الأمر يكون بالعكس عندما يشاهد في المدينة
من هو على خلاف ذلك فبدلا من أن يكون مستفيدا حامدا يكون متضررا ذاما.
·
أن
يتذكر المسلم وهو في هذه المدينة أنه في أرض طيبة هي مهبط الوحي ومأرز الإيمان
ومدرج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من المهاجرين والأنصار
درجوا على هذه الأرض وتحركوا فيها على خير واستقامة والتزام بالحق والهدى فيحذر أن
يتحرك عليها تحركا يخالف تحركهم بأن يكون تحركه فيها على وجه يسخط الله عز وجل
ويعود عليه بالمضرة والعاقبة الوخيمة في الآخرة.
·
أن
يحب المسلم هذه المدينة لفضلها ولمحبة النبي صلى الله عليه وسلم إياها. روى
البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من
سفر فنظر إلى جدرات المدينة أوضع راحلته وإن كان على دابة حركها من حبها.
·
أن
يحرص المسلم على أن يكون مستقيما على أمر الله ملتزما بطاعة الله وطاعة رسوله صلى
الله عليه وسلم شديد الحذر من أن يقع في المعاصي فإن الحسنات في هذه المدينة لها
شأن عظيم والبدع والمعاصي فيها ذات خطر كبير.
·
أن
يحرص المسلم في هذه المدينة على أن يكون له نصيب كبير من تجارة الآخرة التي تكون
الأرباح فيها أضعافا مضاعفة وذلك بأن يصلي ما أمكن من الصلوات في مسجد الرسول صلى
الله عليه وسلم ليحصل الأجر العظيم الموعود به في قول : «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي
هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ»
رواه البخاري ومسلم.
·
أن
يحذر من وفقه الله لسكنى المدينة أن يحدث فيها حدثا أو يؤوي محدثا فيتعرض للعن
لأنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : «المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ
عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ ءَاوَى مُحْدِثًا
فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». رواه ومسلم من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه.
·
أن
لا يتعرض في المدينة لقطع شجر أو اصطياد صيد لما ورد في ذلك من الأحاديث عن الرسول
صلى الله عليه وسلم كقوله : «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي
حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا
يُصَادُ صَيْدُهَا». رواه مسلم. وروى مسلم أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ المَدِينَةِ
أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا». وفي الصحيحين عن عاصم بن
سليمان الأحول أنه قال: قلت لأنس: أحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟،
قال نعم، ما بين كذا إلى كذا لا يقطع شجرها من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين. وفي الصحيحن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: لو
رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا
بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ»، والمراد بالشجر الذي يحرم قطعه هو الذي أنبته الله
عز وجل، أما ما زرعه الناس وغرسوه فإن لهم قطعه.
·
أن
يصبر المسلم على ما يحصل له فيها من ضيق عيش أو بلاء أو لأواء لقوله صلى الله عليه
وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ المَدِينَةِ
وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ
القِيَامَةِ أَوْ شَهِيدًا»، رواه مسلم، وفي صحيح مسلم أيضا أن أبا سعيد مولى
المهري جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء من المدينة وشكى إليه
أسعارها وكثرة عياله وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأواءها فقال له :
ويحك لا ءامرك بذلك إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لَا يَصْبِرُ
أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا فَيَمُوتَ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ
القِيَامَةِ» إذا كان مسلما.
·
أن
يستشعر المسلم وهو في هذه المدينة أنه في بلد شع منه النور وانتشر العلم النافع
إلى أنحاء المعمورة، فيحرص على تحصيل العلم الشرعي الذي يسير به على بصيرة ويدعو
إليه غيره على بصيرة لاسيما إذا كان طلب العلم في مسجد رسول صلى الله عليه وسلم،
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَنْ
دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا يَتَعَلَّمُ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمُهُ كَانَ
كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله وَمَنْ دَخَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ
كَالنَّاظِرِ لِمَا لَيْسَ لَهُ». رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما.
·
أن
لا يغتر ساكن لمدينة بكونه أنه من سكانها. فيقول أنا من سكان المدينة فأنا على
خير. فإن مجرد السكنى إذا لم يكن معها عمل صالح واستقامة على طاعة الله ورسوله
وبعد عن الذنوب والمعاصي لا يغنيه شيئا من عذاب الله وفي موطأ الإمام مالك أن
سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الإنسان عمله.
وهو خبر مطابق للواقع وقد قال الله عز وجل : ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ﴾ِ [سورة الزخرف/13]. ومن المعلوم أن المدينة في مختلف العصور فيها
الأخيار وفيها الأشرار فالأخيار تنفعهم أعمالهم والأشرار لم تقدسهم المدينة ولم
ترفع من شأنهم وهذا كالنسب فمجرد كون الإنسان نسيبا من دون عمل صالح فإن ذلك لا
ينفعه عند الله لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ
يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ». رواه مسلم في صحيحه. فمن أخره عمل عن دخول الجنة لم يكن
نسبه هو الذي يسرع به إليها.
·
أن
يحذر إيذاء أهلها فإن إيذاء المسلمين بلا حق في كل مكان حرام ولكنه في المدينة أشد
فقد روى البخاري في صحيحه عن سعد أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم يقول : «لَا يَكِيدُ أَهْلَ المَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ
كَمَا يَنْمَاعُ المِلْحُ فِي المَاءِ»، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله
عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَرَادَ أَهْلَ هَذِهِ
البَلْدَةِ بِسُوءِ -يعني المدينة- أَذَابَهُ الله كَمَا يَذُوبُ المِلْحُ فِي
المَاءِ».
0 التعليقات:
إرسال تعليق