(7) أ- حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان - ألف ليلة وليلة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه
كان بمدينة دمشق قبل خلافة عبد الملك بن مروان ملك يقال له: عمر النعمان وكان من
الجبابرة الكبار وقد قهر الملوك الأكاسرة والقياصرة وكان لا يصطلى له بنار ولا
يجاريه أحد في مضمار وإذا غضب يخرج من منخريه لهيب النار وكان قد ملك جميع الأقطار
ونفذ حكمه في سائر القرى والأمصار وأطاع له جميع العباد ووصلت عساكره إلى أقصى
البلاد ودخل في حكمه المشرق والمغرب وما بينهما من الهند والسند والصين واليمن
والحجاز والسودان والشام والروم وديار بكر وجزائر البحار وما في الأرض من مشاهير
الأنهار كسيحون وحجيجون والنيل والفرات وأرسل رسله إلى أقصى البلاد ليأتوا بحقيقة
الأخبار فرجعوا وأخبروه بأن سائر الناس أذعنت لطاعته وجميع الجبابرة خضعت لهيبته
وقد عمهم بالفضل والامتنان وأشاع بينهم العدل والأمان لأنه كان عظيم الشأن وحملت
إليه الهدايا من الكل فكان واجبي إليه خراج الأرض في طولها وعرضها. وكان له ولد
وقد سماه شركان لأنه نشأ آفة من آفات الزمان وقهر الشجعان وأباد الأقران فأحبه
والده حباً شديداً ما عليه من مزيد وأوصى له بالملك من بعده. ثم إن شركان هذا حين
بلغ مبلغ الرجال وصار له من العمر عشرون سنة أطاع له جميع العباد لما به من شدة
البأس والعناد وكان والده عمر النعمان له اربع نساء بالكتاب والسنة لكنه لم يرزق
منهن بغير شركان وهو من إحداهن والباقيات عواقر لم يرزق من واحدة منهن بولد ومع
ذلك كله كان له ثلاثمائة وستون سرية على عدد أيام السنة القبطية وتلك السراري من
سائرا لأجناس وكان قد بنى لكل واحدة منهن مقصورة وكانت المقاصير من داخل القصر، فإنه
بنى اثني عشر قصراً على عدد شهور السنة وجعل في كل قصر ثلاثين مقصورة فكانت جملة
المقاصير ثلاثمائة وستون مقصورة وأسكن تلك الجواري في هذه المقاصير وفرض لكل سرية
منهن ليلة يبيتها عندها ولا يأتيها إلا بعد سنة كاملة، فأقام على ذلك مدة من
الزمن، ثم إن ولده شركان اشتهر في سائر الأنحاء ففرح به والده وازداد قوة فطغى
وتجبر وفتح الحصون والبلاد واتفق بالأمر المقدر أن جارية من جواري النعمان قد حملت
واشتهر حملها وعلم الملك بذلك ففرح فرحاً شديداً وقال: لعل ذريتي ونسلي تكون كلها ذكوراً
فأرخ يوم حملها وصار يحسن إليها فعلم شركان بذلك فاغتمم وعظم الأمر وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام الصباح.
وفي الليلة الواحدة والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن
شركان لما علم أن جارية أبيه قد حملت اغتم وعظم عليه ذلك وقال: قد جاءني من
ينازعني في المملكة فأضمر ف نفسه أن هذه الجارية إن ولدت ذكر أقتله وكتم ذلك في
نفسه، هذا ما كان من أمر شركان. وأما ما كان من أمر الجارية فإنها كانت رومية وكان
قد بعثها إليه هدية ملك الروم صاحب قيسارية وأرسل معها تحفاً كثيرة وكان اسمها
صفية وكانت أحسن الجواري وأجملهن وجهاً وأصونهن عرضاً وكانت ذات عقل وافر وجمال
باهر وكانت تخدم الملك ليلة مبيته عندها وتقول له: أيها الملك كنت أشتهي من إله
السماء أن يرزقك مني ولد ذكراً حتى أحسن تربيته لك وأبالغ في أدبه وصيانته فيفرح
الملك ويعجبه ذلك الكلام. فما زالت كذلك حتى كملت أشهرها فجلست على كرسي الطلق
وكانت على صلاح تحسن العبادة فتصلي وتدعو الله أن يرزقها بولد صالح ويسهل عليها
ولادته فتقبل الله منها دعاءها وكان الملك قد وكل بها خادماً يخبره بما تضعه هل هو
ذكر أو أنثى وكذلك ولده شركان كان أرسل من يعرفه بذلك، فلما وضعت صفية ذلك المولود
تأملته القوابل فوجدنه بنتاً بوجه أبهى من القمر، فأعلمن الحاضرين بذلك فرجع رسول
الملك وأخبره بذلك وكذلك رسول شركان أخبره بذلك ففرح فرحاً شديداً. فلما انصرف
الخدام قالت صفية للقوابل: أمهلوا علي ساعة فإني أحس بأن أحشائي فيها شيء آخر، ثم
تأوهت وجاءها الطلق ثانياً وسهل الله عليها فوضعت مولوداً ثانياً فنظرت إليه
القوابل فوجدته ذكراً يشبه البدر بجبين أزهر وخد أحمر مورد ففرحت به الجارية
والخدام والحشم وكل من حضر ورمت صفية الخلاص وقد أطلقوا الزغاريد في القصر فسمع
بقية الجواري بذلك فحسدنها. وبلغ عمر النعمان الخبر ففرح واستبشر وقام ودخل عليها
وقبل رأسها ونظر إلى المولود ثم انحنى وقبله وضربت الجواري بالدفوف ولعبت بالآلات
وأمر الملك أن يسموا المولود ضوء المكان وأخته نزهة الزمان فامتثلوا أمره وأجابوه
بالسمع والطاعة، ورتب لهم من يخدمهم من المراضع والخدم والحشم ورتب لهم الرواتب من
السكر والأشربة والأدهان وغير ذلك مما يكل عن وصفه اللسان. وسمع أهل دمشق وأقبل
الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وهنئوا الملك عمر النعمان بولده ضوء المكان وبنته
نزهة الزمان فشكرهم الملك على ذلك وخلع عليهم وزاد إكرامهم من الأنعام وأحسن إلى
الحاضرين من الخاص والعام، وما زال على تلك الحالة إلى أن مضت أربعة أعوام وهو في
كل يوم يسأل عن صفية وأولادها، وبعد الأربعة أعوام أمر أن ينقل غليها من المصاغ
والحلي والحمل والأموال شيء كثير وأوصاهم بتربيتهما وحسن أدبهما، كل هذا وابن
الملك شركان لا يعلم أن والده عمر النعمان رزق ولداً ذكراً ولم يعلم أنه رزق سوى
نزهة الزمان وأخفوا عليه خبر ضوء المكان إلى أن مضت أيام وأعوام وهو مشغول بمقارعة
الشجعان ومبارزة الفرسان. فبينما عمر النعمان جالس يوماً من الأيام إذ دخل عليه
الحجاب وقبلوا الأرض بين يديه وقالوا: أيها الملك قد وصلت إلينا رسل من ملك الروم
صاحب القسطنطينية العظمى وإنهم يريدون الدخول عليك والتمثل بين يديك فإن أذن لهم
الملك بذلك ندخلهم وإلا فلا مرد لأمره فعند ذلك أمر لهم بالدخول فلما دخلوا عليه
مال إليهم وأقبل عليهم وسألهم عن حالهم وما سبب إقبالهم فقبلوا الأرض بين يديه وقالوا:
أيها الملك الجليل صاحب الباع الطويل اعلم أن الذي أرسلنا إليك الملك أفريدون صاحب
البلاد اليونانية والعساكر النصرانية المقيم بمملكة القسطنطينية يعلمك أنه اليوم
في حرب شديد مع جبار عنيد هو صاحب قيسارية والسبب في ذلك أن بعض ملوك العرب اتفق
أنه وجد في بعض الفتوحات كنزاً من قديم الزمان في عهد الإسكندر فنقل منه أموالاً
لا تعد ولا تحصى، ومن جملة ما وجد فيه ثلاث خرزات مدورات على قدر بيض النعام، وتلك
الخرزات من أغلى الجواهر الأبيض الخالص الذي لا يوجد له نظير وكل خرزة منقوش عليها
بالقلم اليوناني أمور من الأسرار ولهن منافع وخواص كثيرة ومن خواصهن أن كل مولود
علقت عليه خرزة منهن لم يصبه ألم ما دامت الخرزة معلقة عليه ولا يحمي ولا يسخن.
فلما وضع يده عليها ووقع بها وعرف ما فيها من الأسرار أرسل إلى الملك أفريدون هدية
من التحف والمال ومن جملتها الثلاث خرزات وجهز مركبين واحد فيه مال والآخر فيه رجال
يحفظون تلك الهدايا ممن يتعرض لها في البحر، وكان يعرف من نفسه أنه لا أحد يقرر أن
يتعدى عليه لكونه ملك العرب ولا سيما وطريق المراكب التي فيها الهدايا في البحر
الذي في مراكبه مملكة القسطنطينية وهي متوجهة غليه وليس في سواحل ذلك البحر إلا
رعاياه، فلما جهز المركبين سافر إلى أن قربا من بلادنا فخرج عليهما بعض قطاع الطرق
من تلك الأرض وفيهم عساكر من عند صاحب قيسارية فأخذوا جميع ما في المركبين من التحف
والأموال والذخائر والثلاث خرزات وقتلوا الرجال فبلغ ذلك ملكنا فأرسل إليهم عسكراً
فهزموه، فأرسل إليهم عسكراً أقوى من الأول فهزموه أيضاً. فعنذ ذلك اغتاظ الملك
وأقسم أنه لا يخرج إليهم إلا بنفسه في جميع عسكره وأنه لا يرجع عنهم حتى يخرب قيسارية
ويترك أرضها وجميع البلاد التي يحكم عليها ملكاً والمراد من صاحب القوة والسلطان
الملك عمر النعمان أن يمدنا بعسكر من عنده حتى يصير الفجر وقد أرسل إليك ملكنا
معنا شيئاً من أنواع الهدايا ويرجو من إنعامك قبولها والتفضل عليه بالإنجاز، ثم أن
الرسل قبلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
في الليلة الثانية والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن رسل
ملك القسطنطينية قبلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان بعد أن حكوا له ثم أعلموه
بالهدية وكانت الهدية خمسين جارية من خواص بلاد الروم وخمسين مملوكاً عليه أقبية
من الديباج بمناطق من الذهب والفضة وكل مملوك في أذنه حلقة من الذهب فيها لؤلؤة
تساوي ألف مثقال من الذهب والجواري كذلك وعليهم من القماش ما يساوي مالاً جزيلاً،
فلما رآهم الملك قبلهم وفرح بهم وأمر بإكرام الرسل وأقبل على وزرائه يشاورهم فيما
يغفل فنهض من بينهم وزير وكان شيخاً كبيراً يقال له: دندان فقبل الأرض بين يدي
الملك عمر النعمان وقال: أيها الملك ما في الأمر أحسن من أنك تجهز عسكراً جراراً
وتجعل قائدهم ولدك شركان ونحن بين يديه غلمان هذا الرأي أحسبن لوجهين: الأول أن
ملك الروم قد استجار بك وأرسل إليك هدية فقبلتها، والوجه الثاني أن لعدو لا يجسر
على بلادنا فإذا منع عسكرك عن ملك الروم وهزم عدوه ينسب هذا الأمر إليك ويشيع ذلك
في سائر الأقطار والبلاد، ولا سيما إذا وصل الخبر إلى جزائر البحر وسمع بذلك أهل
المغرب فإنهم يحملون إليك الهدايا والتحف والأموال. فلما سمع لملك هذا الكلام من
وزيره دندان أعجبه واستصوبه وخلع عليه وقال له: مثلك من تستشيره الملوك ينبغي أن
تكون أنت في مقدم العسكر وولدي شركان في ساقة العسكر ثم إن الملك أمر بإحضار ولده
فلما حضر قص عليه القصة وأخبره بما قاله الرسل وبما قاله الوزير دندان وأوصاه بأخذ
الأهبة والتجهيز للسفر وأنه لا يخالف الوزير دندان فيما يشور به عليه وأمره أن
ينتخب من عسكره عشرة آلاف فارس كاملين العدة صابرين على الشدة فامتثل شركان ما
قاله والده عمر النعمان وقام في الوقت واختار من عسكره عشرة آلاف فارس ثم دخل قصره
وأخرج مالاً جزيلاً وأنفق عليهم المال وقال لهم: قد أمهلتكم ثلاثة أيام فقبلوا الارض
بين يديه مطيعين لأمره، ثم خرجوا من عنده وأخذوا من الأهبة وإصلاح الشأن ثم إن
شركان دخل خزائن السلاح وأخذ ما يحتاج إليه من العدد والسلاح، دخل الإصطبل واختار
منه الخيل المسالمة وأخذ غير ذلك وبعد ذلك أقاموا ثلاثة أيام ثم خرجت العساكر إلى
ظاهر المدينة وخرج الملك عمر النعمان لوداع ولده شركان فقبل الأرض بين يديه وأهدى
له سبع خزائن من المال وأقبل على الوزير دندان وأوصاه بعسكر ولده شركان فقبل الأرض
بين يديه وأجابه بالسمع والطاعة وأقبل الملك على ولده شركان وأوصاه بمشاورة الوزير
دندان في سائر الأمور، فقبل ذلك ورجع والده إلى أن دخل المدينة، ثم إن شركان أمر
كبار العسكر بعرضهم عليه وكانت عدتهم عشرة آلاف فارس غير ما يتبعهم ثم إن القوم
حملوا ودقت الطبول وصاح النفير وانتشرت الأعلام تخفق على رؤوسهم ولم يزالوا سائرين
والرسل تقدمهم إلى أن ولى النهار وأقبل الليل، فنزلوا واستراحوا وباتوا تلك الليلة.
فلما اصبح الصباح ركبوا وساروا ولم
يزالوا سائرين، والرسل يدلونهم على الطريق مدة عشرين يوماً ثم أشرفوا في اليوم
الحادي والعشرين على واد واسع الجهات كثير الأشجار والنبات، وكان وصولهم إلى ذات
الوادي ليلاً فأمرهم شركان بالنزول والإقامة فيه ثلاثة أيام فنزل العساكر وضربوا
الخيام وافترق العسكر يميناً وشمالاً ونزل الوزير دندان وصحبته رسل أفريدون، صاحب
القسطنطينية، في وسط ذلك الوادي وأما الملك شركان فإنه كان في وقت وصول العسكر،
وقف بعدهم ساعة حتى نزلوا جميعهم وتفرقوا في جوانب الوادي ثم إنه أرخى عنان جواده
وأراد أن يكشف ذلك الوادي، ويتولى الحرس بنفسه لأجل وصية والده إياه فإنهم في أول
بلاد الروم وأرض العدو فسار وحده بعد أن أمر مماليكه وخواصه بالنزول عند الوزير
دندان ثم إنه لم يزل سائراً على ظهر جواده في جوانب الوادي، إلى أن مضى من الليل
ربعه فتعب وغلب عليه النوم فصار لا يقدر أن يركض الجواد وكان له عادة أنه ينام على
ظهر جواده. فلما هجم عليه النوم نام ولم يزل الجواد سائراً به إلى نصف الليل فدخل
به في بعض الغابات وكانت تلك الغابة كثيرة الأشجار فلم ينتبه شركان حتى دق الجواد
بحافره في الأرض فاستيقظ فوجد نفسه بين الأشجار، وقد طلع عليه القمر وأضاء في
الخافقين فاندهش شركان لما رأى نفسه في ذلك المكان وقال كلمة لا يخجل قائلها وهي:
لا حول ولا قوة إلا بالله، فبينما هو كذلك خائف منا لوحوش متحير لا يدري أين يتوجه
فلما رأى القمر أشرف على مرج كأنه من مروج الجنة سمع كلاماً مليحاً وصوتاً علياً
وضحكاً يسبي عقول الرجال فنزل الملك شركان عن جواده في الأسحار ومشى حتى أشرف على
نهر فرأى فيه الماء يجري وسمع كلام امرأة تتكلم بالعربية وهي تقول: وحق المسيح إن
هذا منكن غير مليح ولكن كل من تكلمت بكلمة صرعتها وكتفتها بزنارها كل هذا وشركان
يمشي إلى جهة الصوت حتى انتهى إلى طرف المكان ثم نظر فإذا بنهر مسرح وطيور تمرح
وغزلان تسنح ووحوش ترتع والطيور بلغاتها لمعاني الحظ تنشرح وذلك المكان مزركش
بأنواع النبات، فقال: ماتحسن الأرض إلا عند زهرتـهـا والماء من فوقها يجري
بـإرسـال. صنعا الاله العظيم الشأن مـقـتـدرا معطى العطايا ومعطي كل منفضال. فنظر
شركان إلى ذكل المكان فرأى فيه ديراً، ومن داخل الدير قلعة شاهقة في الهواء في ضوء
القمر وفي وسطها نهر يجري الماء منه إلى تلك الرياض وهناك امرأة بين يديها عشر
جوار كأنهن الأقمار وعليهن من أنواع الحلي والحلل ما يدهش الأبصار وكلهن أبكار
بديعات كما قيل فيهن هذه الأبيات: يشرق المرج بما فيه من البيض العـوال زاد حسناً
وجـمـالاً من بديعات الخلال كل هيفاء قـوامـا ذات غـنـج ودلال راخيات الشـعـور
كاعناقيد الـدوالـي فاتـنـات بـعـيون راميات بالـنـبـال مائسـات قـاتـلات لصناديد
الـرجـال فنظر شركان إلى هؤلاء العشر جوار فوجد بينهن جارية كأنه البدر عند تمامه
بحاجب مرجرج وخبير أبلج وطرف أهدب وصدغ معقرب فأنشد: تزهو علي بألحـاظ بـديعـات
وقدها مخجل للسـمـهـريات تبدو إلينـا وخـداهـا مـوردة فيها منا لظرف أنواع
الملاحات كأن طرتها في نور طلعتـهـا ليل يلوح على صبح المسرات فسمعها شركان وهي
تقول للجواري: تقدموا حتى أصارعكم قبل أن يغيب القمر ويأتي الصباح فصارت كل واحدة
منهن تتقدم إليها فتصرعها في الحال وتكتفها بزنارها فلم تزل تصارعهن وتصرعهن حتى
صرعت الجميع ثم التفتت إليها جارية عجوز كانت بين يديها وقالت لها وهي كالمغضبة
عليها: يا فاجرة أتفرحين بصرعك للجواري فها أنا عجوز وقد صرعتهن أربعين مرة فكيف
تعجبين ينفسك ولكن إن كان لك قوة على مصارعتي فصارعيني فإن أردت ذلك وقمت لمصارعتي
أقوم لك وأجعل رأسك بين رجليك فتبسمت الجارية ظاهراً وقد امتلأت غيظاً منها باطناً
وقامت إليها وقالت لها: يا سيدتي ذات الدواهي بحق المسيح أتصارعينني حقيقة أو
تمزحين معي؟ قالت لها: بل اصارعك حقيقة وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة
الثالثة والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن
الجارية لما قالت لها: أصارعك حقيقة قالت لها: قومي للصراع إن كان لك قوة، فلما سمعت
العجوز منها اغتاظت غيظاً شديداً وقام شعر بدنها كأنه شعر قنفذ وقامت لها الجارية
فقالت لها العجوز: وحق المسيح لا أصارعك إلا وأنا عريانة يا فاجرة، ثم إن العجوز
أخذت منديل حرير بعد أن فكت لباسها وأدخلت يديها تحت ثيابها ونزعتها من فوق جسدها
ولمت المنديل وشدته في وسطها فصارت كأنها عفرية معطاء أو حية رقطاء ثم انحنت على
الجارية وقالت لها: افعلي كفعلي كل هذا وشركان ينظر إليهما، ثم إن شركان صار يتأمل
في تشويه صورة العجوز ويضحك، ثم إن العجوز لما فعلت ذلك قامت الجارية على مهل
وأخذت فوطة يمانية، وتنتها مرتين وشمرت سراويلها فبان لها ساقان من المرمر،
وفوقهما كثيب من البلور ناعم مربرب، وبطن يفوح المسك من أعكانه كأنه مصفح بشقائق
النعمان وصدر فيه نهدان كفحلي رمان ثم انحنت عليها العجوز وتماسكا ببعضهما فرفع
شركان رأسه إلى السماء ودعا الله أن الجارية تغلب العجوز، فدخلت الجارية تحت
العجوز ووضعت يدها الشمال في شفتها ويدها اليمين في رقبتها مع حلقها ورفعتها على
يديها فانفلتت العجوز من يديها، وارادت الخلاص فوقعت على ظهرها فارتفعت رجلاها إلى
فوق فبانت شعرتها في القمر، ثم ضرطت ضرطتين عفرت إحداهما في الأرض ودخنت الأخرى في
السماء، فضحك شركان منهما حتى وقع على الأرض، ثم قام وسل حسامه والتفت يميناً
وشمالاً فلم ير أحداً غير العجوز مرمية على ظهرها فقال في نفسه: ما كذب من سماك
ذات الدواهي ثم تقرب منهما ليسمع ما يجري بينهما. فأقبلت الجارية ورمت على العجوز
ملاءة من حرير رفيعة وألبستها ثيابها واعتذرت إليها وقالت لها: يا سيدتي ذات
الداواهي ما أردت إلا صرعك لأجل جميع ما حصل لك ولكن أنت انفلت من بين يدي فالحمد
لله على السلامة، فلما ترد عليها جواباً وقامت تمشي من خجلها ولم تزل ماشية إلى أن
غابت عن البصر وصارت الجواري مكتفات مرميات، والجارية واقفة وحدها فقال شركان في
نفسه لكل رزق سبب ما غلب علي النوم وسار بي الجواد إلى هذا المكان إلا لبختي فلعل
هذه الجارية وما معها يكون غنيمة لي ثم ركب جواده ولكزه ففر به كالسهم إذا فر من القوس
وبيده حسامه، مجرد من غلافه ثم صاح: الله أكبر فلما رأته الجارية نهضت قائمة،
وقالت: اذهب إلى أصحابك قبل الصباح لئلا يأتيك البطارقة فيأخذونك على أسنة الرماح
وأنت ما فيك قوة لدفع النسوان فكيف تدافع الرجال الفرسان فتحير شركان في نفسه وقال
لها: وقد ولت عنه معرضة لقصد الدير: يا سيدتي أتذهبين وتتركين المتيم الغريب
المسكين الكسير القلب؟ فالتفتت إليه وهي تضحك، ثم قالت له: ما حاجتك فإني أجيب دعوتك؟ فقال: كيف
أطأ أرضك واتحلى بحلاوة لطفك وأرجع بلا أكل من طعامك وقد صرت من بعض خدامك؟ فقالت:
لا يأبى الكرامة إلا لئيم تفضل باسم الله على الرأس والعين واركب جوادك وسر على
جانب النهر مقابلي، فأنت في ضيافتي.
ففرح شركان وبادر إلى جواده وركب وما
زال ماشياً مقابلها وهي سائرة قبالته إلى أن وصل إلى جسر معمول بأخشاب من الجوز
وفيه بكر بسلاسل من البولاد وعليها أقفال في كلاليب فنظر شركان إلى ذلك الجسر وإذا
بالجواري اللاتي كن معها في المصارعة قائمات ينظرن إليها فلما أقبلت عليهن كلمت
جارية منهن بلسان الرومية وقالت لها: قومي غليه وأمسكي عنان جواده ثم سيري به إلى
الدير فسار شركان وهي قدامه إلى أن عدي الجسر وقد اندهش عقله مما رأى، وقال في نفسه:
يا ليت الوزير دندان كان معي في هذا المكان وتنظر عيناه إلى تلك الجواري الحسان،
ثم التفت إلى تلك الجارية وقال لهاك يا بديعة الجمال قد صار لي عليك الآن حرمتان
حرمة الصحبة وحرمة سيري إلى منزلك وقبول ضيافتك وقد صرت تحت حكمك وفي عهدك فلو أنك
تنعمين علي بالمسير إلى بلاد الإسلام وتتفرجين على كل أسد ضرغام وتعرفين من أنا
فلما سمعت كلامه اغتاظت منه وقالت له: وحق المسيح لقد كنت عندي ذا عقل ورأي ولكني
اطلعت الآن على ما في قلبك من الفساد وكيف يجوز لك أن تتكلم بكلمة تنسب بها إلى
الخداع كيف أصنع هذا؟ وأنا أعلم متى حصلت عند ملككم عمر النعمان لا أخلص منه لأنه
ما في قصوره مثلي ولو كان صاحب بغداد وخراسان، وبنى له اثني عشر قصراً في كل قصر
ثلاثمائة وست وستون جارية على عدد أيام السنة والقصور عدد أشهر السنة وحصلت عنده
ما تركني لأن اعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي كما في كتبكم حيث قيل فيها أو ما
ملكت أيمانكم فكيف تكلمني بهذا الكلام؟ وأما قولك: وتتفرجين على شجعان المسلمين فوحق
المسيح إنك قلت قولاً غير صحيح فإني رأيت عسكركم لما استقبلتم أرضنا وبلادنا في
هذين اليومين فلما أقبلتم لم أر تربيتكم تربية ملوك وإنما رأيتكم طوائف مجتمعة وأما
قولك: تعرفين من أنا فأنا لا أصنع معك جميلاً لأجل إجلالك وإنما افعل ذلك لأجل
الفخر ومثلك ما يقول لمثلي ذلك ولو كنت شركان بن الملك عمر النعمان الذي ظهر في
هذا المكان فقال شركان في نفسه: لعلها عرفت قدوم العسكر وعرفت عدتهم وأنهم عشرة
آلاف فارس وعرفت أن والدي أرسلهم معي لنصرة ملك القسطنطينية ثم قال شركان: يا
سيدتي أقسمت عليك بمن تعتقدين من دينك أن تحدثيني بسبب ذلك حتى يظهر لي الصدق من
الكذب ومن يكون عليه وبال ذلك فقالت له: وحق ديني لولا أني خفت أن يشيع خبري أني
من بنات الروم لكنت خاطرت بنفسي وبارزت العشرة آلاف فارس وقتلت مقدمهم الوزير
دندان وظفرت بفارسهم شركان وما كان علي من ذلك عار ولكني قرأت الكتب وتعلمت الأدب
من كلام العرب، ولست أصف لك نفسي بالشجاعة، مع أنك رأيت مني العلامة والصناعة
والقوة في الصراع والبراعة ولو حضر شركان مكانك في هذه الليلة وقيل له نط هذا
النهر لأذعن واعترف بالعجز وإني أسأل المسيح أن يرميه بين يدي في هذا الدير حتى خرج
له في صفة الرجال أو أأسره واجعله في الأغلال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة الرابعة والستون
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن
الصبية النصرانية لما قالت هذا الكلام لشركان وهو يسمعه أخذته النخوة والحمية
وغيره الأبطال وأراد أن يظهر لها نفسه ويبطش بها ولكن رده عنها فرط جمالها وبديع
حسنها فأنشد هذا البيت: وإذا المليح أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع ثم صعدت
وهو في أثرها فنظر شركان إلى ظهر الجارية، فراى أردافها تتلاطم كالأمواج في البحر
الرجراج فأنشد هذه الأبيات: في وجهها شافع يمحو إساءتهـا من القلوب وجيه حيثما
شفعـا إذا تأملتها ناديت مـن عـجـب البدر في ليلة الإكمال قد طلعـا لو أن عفريت
بلقيس يصارعهـا من فرط قوته في ساعة صرعا
ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى باب
مقنطر وكانت قنطرته من رخام ففتحت الجارية الباب ودخلت ومعها شركان وسارا إلى
دهليز طويل مقبى على عشر قناطر معقودة وعلى كل قنطرة قنديل من البلور يشتعل
كاشتعال الشمس، فلقيها الجواري في آخر الدهليز بالشموع المطيبة وعلى رؤوسهن
العصائب المزركشة بالفصوص من أصناف الجواهر وسارت وهن أمامها وشركان وراءها إلى أن
وصلوا إلى الدير فوجد بداخل ذلك الدير أسرة مقابلة لبعضها وعليها ستور مكللة
بالذهب وأرض الدير مفروشة بأنواع الرخام المجزع، وفي وسطه بركة ماء عليها أربع
وعشرين قارورة من الذهب والماء يخرج منها كاللجين ورأى في الصدر سريراً مفروشاً
بالحرير الملوكي فقالت له الجارية: اصعد يا مولاي على هذا السرير فصعد شركان فوق
السرير، وذهبت الجارية وغابت عنه فسأل عنها بعض الخدام فقالوا له: إنها ذهبت إلى مرقدها ونحن نخدمك كما
أمرت، ثم إنها قدمت إليه من غرائب الألوان فأكل حتى اكتفى ثم بعد ذلك قدمت إليه
طشتاً وإبريقاً من الذهب فغسل يديه وخاطره مشغول بعسكره لكونه لا يعلم ما جرى لهم
بعد ويتذكر أيضاً كيف نسي وصية أبيه فصار متحيراً في أمره نادماً على ما فعل إلى
أن طلع الفجر وبان النهار وهو يتحسر على ما فعل وصار مستغرقاً في الفكر وأنشد هذه
الأبيات: لم أعدم الحزم ولـكـنـنـي دهيت في الأمر فما حيلتـي لو كان من يكشف عني
الهوى برئت من حولي ومن قوتـي وإن قلبي في ضلال الهـوى صب وأرجو الله في شدتـي
فلما فرغ من شعره رأى بهجة عظيمة قد أقبلت فنظر فإذا هو بأكثر من عشرين جارية
كالأقمار حول تلك الجارية وهي بينهن كالبدر بين الكواكب وعليها ديباج ملوكي وفي
وسطها زنار مرصع بأنواع الجواهر وقد ضم خصرها وأبرز ردفها فصارا كأنهما كثيب بلور
تحت قضيب من فضة ونهداها كفحلي رمان، فلما نظر شركان ذلك كاد عقله أن يطير من
الفرح ونسي عسكره ووزيره وتأمل رأسها فرأى عليها شبكة من اللؤلؤ مفصلة بأنواع
الجواهر والجواري عن يمينها ويسارها يرفعن أذيالها وهي تتمايل عجباً فعند ذلك وثب
شركان قائماً على قدميه من هيبة حسنها وجمالها فصاح: واحسرتاه من هذا الزنار وأنشد
هذه الأبيات: ثقـيلة الأرداف مــائلة خرعوبة ناعمة النـهـد تكتمت ما عندها من جوى
ولست أكتم الذي عنـدي خدامها يمشين من خلفهـا كالقبل في حل وفي عقد ثم إن الجارية
جعلت تنظر إليه طويلاً وتكرر فيه النظر إلى أن تحققته وعرفته فقالت له بعد أن
أقبلت عليه: قد أشرق بك المكان يا شركان كيف كانت ليلتك يا همام بعدما مضينا
وتركناك؟ ثم قالت له إن الكذب عند الملوك منقصة وعار ولا سيما عند أكابر الملوك
وأنت شركان بن عمر النعمان فلا تنكر نفسك وحسبك ولا تكتم أمرك عني ولا تسمعني بعد
ذلك غير الصدق. إن الكذب يورث البغض والعداوة، فقد نفذ فيك سهم القضا فعليك
بالتسليم والرضا. فلما سمع كلامها لم يمكنه الإنكار فأخبرها بالصدق وقال لها: أنا شركان بن عمر النعمان الذي عذبني
الزمان وأوقعني في هذا المكان، فمهما شئت فافعليه الآن، فأطرقت برأسها إلى الأرض
برهة ثم التفتت إلهي وقالت له: طب نفساً وقر عيناً فإنك ضيفي وصار بيننا وبينك خبز
وملح وحديث ومؤانسة فأنت في ذمتي وفي عهدي فكن آمناً. وحق المسيح لو أراد أهل
الأرض أن يؤذوك لما وصلوا إليك إلا إن خرجت روحي من أجلك، ولو كان خاطري في قتلك
لقتلتك في هذا الوقت. ثم تقدمت إلى المائدة وأكلت من كل لون لقمة، فعند ذلك أكل
شركان ففرحت الجارية وأكلت معه إلى أن اكتفيا،وبعد أن غسلا أيديهما قامت وأمرت
الجارية أن تأتي بالرياحين وآلات الشراب من أواني الذهب والفضة والبلور وأن يكون
الشراب من سائر الألوان المختلفة والأنواع النفيسة فأتتها بجميع ما طلبته، ثم إن
الجارية ملأت أولاً القدح وشربته قبله كما فعلت في الطعام، ثم ملأت ثانياً وأعطته
إياه فشرب فقالت له: يا مسلم انظر كيف أنت في ألذ عيش ومسرة، ولم تزل تشرب معه إلى
أن غاب عن رشده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة الخامسة والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن
الجارية ما زالت تشرب وتسقي شركان إلى أن غاب عن رشده من الشراب ومن سكر محبتها،
ثم إنها قالت الجارية: يا مرجانة
هات لنا شيئاً من آلات الطرب فقالت: سمعاً وطاعة، ثم غابت لحظة وأتت بعود جلقي
وجنك عجمي وناي تتري وقانون مصري، فأخذت الجارية العود وأصلحته وشدت أوتاره وغنت
عليه بصوت رخيم أرق من النسيم وأعذ من ماء التنسيم وأنشدت مطربة بهذه الأبيات: عفا
الله عن عينينك كم سفكت دما وكم فوقت منك اللواحظ أسهما أجل حبيباً حائراً في
حـبـيبـه حراً عـيه أن يرق ويرحـمـا هنيئاً لطرف فيك بات مسـهـداً وطوبى لقلب ظل
فيك متـيمـا تحكمت في قتلي فإنك مالـكـي بروحي أفدي الحاكم المتحكمـا ثم قامت
واحدة من الجواري ومعها آلتها وأنشدت تقول عليها أبيات بلسان الرومية فطرب شركان،
ثم غنت الجارية سيدتهن أيضاً وقالت: يا مسلم أما فهمت ما أقول؟ قال: لا ولكن ما
طربت إلا على حسن أناملك، فضحكت وقالت له: إن غنيت لك بالعربية ماذا تصنع؟ فقال:
ما كنت أتمالك عقلي، فأخذت آلة الطرب وغيرت الضرب وأنشدت هذه الأبيات: طعم التفريق
مـر فهل لذلك صـبـر أهوى ظريفاً سباني بالحسن والهجر مر فلما فرغت من شعرها نظرت
إلى شركان فوجدته قد غاب عن وجوده ولم يزل مطروحاً بينهن ممدوداً ساعة ثم أفاق
وتذكر الغناء فمال طرباً، ثم إن الجارية أقبلت هي وشركان على الشراب ولم يزالا في
لعب ولهو إلى أن ولى النهار بالرواح ونشر الليل الجناح فقامت إلى مرقدها فسأل
شركان عنها فقالوا له أنها مضت إلى مرقدها فقال: في رعاية الله وحفظه، فلما أصبح
أقبلت عليه الجارية وقالت له: إن سيدتي تدعوك إليها فقام معها وسار خلفها فلما قرب
من مكانها زفته الجواري بالدفوف والمغاني إلى أن وصل إلى باب كبير من العاج مرصع
بالدر والجوهر فلما دخلوا منه وجد داراً كبيرة أيضاً وفي صدرها إيوان كبير مفروش
بأنواع الحرير وبدائر ذلك شبابيك مفتحة مطلة على أشجار وأنهار وفي البيت صور مجسمة
يدخل فيها الهواء فتتحرك في جوفها آلات فيتخيل للناظر أنها تتكلم والجارية جالسة
تنظر إليهم، فلما نظرته الجارية نهضت قائمة غليه وأخذت يده وأجلسته بجانبها وسألته
عن مبيته فدعا لها ثم جلسا يتحدثان فقالت له: أتعرف شيئاً مما يتعلق بالعاشقين
والمتيمين؟ فقال: نعم أعرف شيئاً من الأشعار فقالت أسمعني فأنشد هذه الأبيات: لا..
لا أبوح بحب عزة إنهـا أخذت علي مواثقاً وعهـودا وهبان مدين والذين عهدتهـم يبكون
من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة ركعاً وسجـودا فلما
سمعته قالت: لقد كان باهراً كثيراً في الفصاحة بارع البلاغة لأنه بالغ في وصفه
العزة حيث قال، وأنشدت هذين البيتين: لو أن عزة حاكمت شمس الضحى في الحسن عند موفق
لقضي لها وسعت إلي بغيب عـزة نـسـوة جعل الإله خدودهن نعـالـهـا ثم قالت: وقيل أن
عزة كانت في غاية الحسن والجمال ثم قالت له: يا ابن الملك إن كنت تعرف شيئاً من
كلام جميل فأنشدنا منه، ثم قال: إني أعرف به كل واحد، ثم أنشد من شعر جميل هذا
البيت: تريدين قتلي لا تريدين غـيره ولست أرى قصداً سواك أريد فلما سمعت ذلك قالت
له: أحسنت يا ابن الملك، ما الذي ارادته عزة بجميل حتى قال هذا الشطر؟ أي: تريدين
قتلي لا تريدين غيره، فقال لها شركان: يا سيدتي لقد أرادت به ما تريدين مني ولا
يرضيك، فضحكت لما قال لها شركان هذا الكلام، ولم يزالا يشربان إلى أن ولى النهار
وأقبل الليل بالاعتكار فقامت الجارية وذهبت مرقدها ونامت ونام شركان في مرقده إلى
أن أصبح الصبح، فلما أفاق أقبلت عليه الجواري بالدفوف وآلات الطرب كالعادة ومشى
الجواري حوله يضربن بالدفوف والآلات إلى أن خرج من تلك الدار ودخل داراً غيره أعظم
من الأولى وفيها من التماثيل وصور الوحوش ما لا يوصف فتعجب شركان مما رأى من صنع
ذلك المكان فأنشد هذه الأبيات:
أجني رقيبي من ثمار قلائد در النحور
منضداً بالعسجد وعيون ماء من سبائك فـضة وخدود ورد في وجوه زبرجد فكأنما لون
البنفسج قد حكـى زرق العيون وكحلت بالأثمد فلما رأت الجارية شركان قامت له وأخذت
يده وأجلسته إلى جانبها وقالت له: أنت ابن الملك عمر النعمان فهل تحسن لعب
الشطرنج؟ فقال: نعم، ولكن لا تكوني كما قال الشاعر: أقول والوجد يكويني وينـشـرنـي
ونهلة من رضاب الحب تروينـي حضرت شطرنج من أهوى فلاعبني بالبيض والسود ولكن ليس
يرضيني كأنما الشاة عند الرخ مـوضـعـه وقد تفقـد دسـتـا بـالـفـرازين فإن نظرت إلى
معنى لواحظـهـا فإن ألحاظهـا يا قـوم تـردينـي ثم قدم الشطرنج ولعبت معه فصار
شركان كلما أراد أن ينظر إلى نقلها نظر إلى وجهها فيضع الفرس موضع الفيل ويضع
الفيل موضع الفرس فضحكت وقالت: إن كان لعبك هكذا فأنت لا تعرف شيئاً فقال: هذا أول
دست لا تحسبيه، فلما غلبته رجع وصف القطع ولعب معها فغلبته ثانياً وثالثاً ورابعاً
وخامساً، ثم التفتت إليه وقالت له: أنت في كل شيء مغلوب فقال: يا سيدتي مع مثلك
يحسن أن أكون مغلوباً، ثم أمرت بإحضار الطعام فأكلا وغسلا أيديهما وأمرت بإحضار
الشراب فشربا وبعد ذلك أخذت القانون وكان لها بضرب القانون معرفة جيدة فأنشدت هذه
الأبيات: الدهر ما بين مطوي ومبسـوط ومثله مثل محرور ومخـروط فاضرب على إن كنت
مقتـدراً أن لا تفارقني في وجه التفريط ثم إنهما لم يزالا على ذلك إلى أن أقبل
الليل فكان ذلك اليوم أحسن من اليوم الذي قبله، فلما أقبل الليل مضت الجارية إلى
مرقدها وانصرف شركان إلى موضعه فنام إلى الصباح ثم أقبلت عليه الجواري بالدفوف
وآلات الطرب وأخذوه كالعادة إلى أن وصلوا إلى الجارية فلما رأته نهضت قائمة
وأمسكته من يده وأجلسته بجانبها وسألته عن مبيته فدعا لها بطول البقاء، ثم أخذت
العود وأنشدت هذين البيتين: لا تركننن إلى الفراق فإنه مـر الـمـذاق الشمس عند
غروبهـا تصفر من ألم الفراق فبينما هما على هذه الحالة وإذا هما بضجة فالتفتا
فرأيا رجالاً وشباناً مقبلين وغالبهم بطارقة بأيديهم السيوف مسلولة تلمع وهم
يقولون بلسان رومية: وقعت عندنا يا شركان فأيقن الهلاك، فلما سمع شركان هذا الكلام
قال في نفسه: لعل هذه الجارية الجميلة خدعتني وأمهلتني إلى أن جاء رجالها وهم
البطارقة الذين خوفتني بهم، ولكن أنا الذي جنيت على نفسي وألقيتها في الهلاك. ثم
التفت إلى الجارية ليعاتبها فوجد وجهها قد تغير بالاصفرار، ثم وثبت على قدميها وهي
تقول لهم: من أنتم؟ فقال لها البطريق المقدم عليهم: أيتها الملكة الكريمة والدرة
اليتيمة أما تعرفين الذي عندك من هو؟ قالت له: لا أعرفه فمن هو؟ فقال لها: هذا
مخرب البلدان وسيد الفرسان هذا شركان ابن الملك عمر النعمان هذا الذي فتح القلاع
وملك كل حصن منيع، وقد وصل خبره إلى الملك حردوب والدك من العجوز ذات الدواهي
وتحقق ذلك ملكنا نقلاً عن العجوز وها أنت قد نصرت عسكر الروم بأخذ هذا الأسود
المشؤوم. فلما سمعت كلام البطريق نظرت إليه وقالت له: ما اسمك؟ قالت لها: اسمي ماسورة بن عبدك موسورة بن كاشردة
بطريق البطارقة قالت له: كيف دخل علي بغير إذني؟ فقال لها: يا مولاتي إني لماوصلت
إلى الباب ما منعني حاجب ولا بواب بل قام جميع البوابين ومشوا بين أيدينا كما جرت
به العادة إنه إذا جاء غيرنا يتركونه واقفاً على الباب حتى يستأذنوا عليه الدخول
وليس هذا وقت إطالة الكلام والملك منتظر رجوعنا إليه بهذا الملك الذي هو شرارة
جمرة عسكر الإسلام لأجل أن يقتله ويرحل عسكره إلى المواضع الذي جاؤوا منه من غير
أن يحصل لنا تعب في قتالهم. فلما سمعت الجارية هذا الكلامقالت له: إن هذا الكلام
غير حسن ولكن قد كذبت العجوز ذات الدواهي ظنها قد تكلمت بكلام باطل لا تعلم
حقيقته. وحق المسيح الذي هتدي ما هو شركان وغلا كنت أسرته ولكن رجل أتى إلينا وقدم
علينا فطلب الضيافة فأضفناه، فإذا تحققنا أنه شركان بعينه وثبت عندنا أنه هو من
غير شك فلا يليق بمروءتي أن أمكنكم منه لأنه دخل تحت عهدي وذمتي، فلا تخونوني في
ضيفي ولا تفضحوني بين الأنام بل ارجع أنت إلى الملك أبي وقبل الأرض بين يديه
وأخبره بأن الأمر بخلاف ما قالته العجوز ذات الدواهي. فقال البطريق ماسورة: يا
إبريزة أنا ما أقدر أن أعود إلى الملك إلا بغريمه. فلما سمعت هذا الكلام قالت: لا
كان هذا الأمر فإنه عنوان السفه لأن هذا الرجل واحد وأنتم مائة، فإذا أردتم
مصادمته فابرزوا له واحداً بعد واحد ليظهر عند الملك من هو البطل منكم. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
0 التعليقات:
إرسال تعليق